


حسن عيسى يكتب : لم يطفئ الزمن حلم نور الشريف
كتب: حسن عيسى




لم يُطفئ الزمن حلم نور الشريف. حتى في لحظاته الأخيرة، ظل محتفظًا بلمعة عين طفل يطل من شرفة بيت عمه في السيدة زينب، نحو عالم أوسع من حدود الحارة.
طفل يتيم، رحل والده مبكرًا، وتزوجت أمه تاركة إياه وحيدًا وسط أبناء أعمامه. تلك الوحدة القاسية لم تكسره، بل صقلت داخله صلابة البقاء تحت أي ضغط، ورسمت له طريقًا مختلفًا لا يشبه أحدًا.
في بداياته، لم يكن الأكثر موهبة بين أبناء جيله، لكنه كان الأكثر إصرارًا على البقاء والنجاح. كان نموذجًا فريدًا في كيفية إدارة موهبته وتطويرها حتى تجاوزت حدودها الأولى. رفض الاكتفاء بصورة «النجم التجاري» وصنع قدره بيديه؛ لم ينتظر الدور المناسب، بل خلقه بنفسه. أنشأ شركة إنتاج تقدم ما يؤمن به، حتى لو كانت مغامرة مالية وفكرية.
المخاطرة عنده لم تكن اندفاعًا، بل خطة واعية: كسر النمط المألوف، وفتح الأبواب أمام مخرجين وكتّاب وممثلين شباب، مانحًا الفرصة لأصوات جديدة ما كانت لتظهر لولا إيمانه بها. لم يكن الإنتاج عنده وسيلة لعرض نفسه فقط، بل منصة لتجديد دماء السينما المصرية وخلق توازن بين الرؤية الفنية والجماهيرية.
اختياراته على الشاشة حملت ملامح المجتمع وصراعاته: الانهيار القيمي في سواق الأتوبيس، العار الأخلاقي في العار، الالتزام السياسي في ناجي العلي، الفساد والتحولات الاجتماعية في أهل القمة، وقراءة المجتمع من الداخل في عمارة يعقوبيان. في كل هذه الأدوار، كان أداؤه أقرب إلى بركان مكتوم، يعيش في التفاصيل أكثر مما يلهث وراء الصخب.
خارج الكاميرا، كان ممثلًا مثقفًا واسع الاطلاع، قارئًا نهمًا، وصاحب رؤية سياسية وتحليل عميق للأحداث، ما جعله حاضرًا حتى اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي للاسترشاد بآرائه في الفن والسياسة. وعلى خشبة المسرح، قدّم أعمالًا راسخة في الذاكرة، مؤكّدًا أن الفن بالنسبة له ممارسة ثقافية وفكرية بقدر ما هو مهنة.
ومثلما أبدع في السينما والمسرح، بنى حضورًا قويًا في التلفزيون؛ من لن أعيش في جلباب أبي، أيقونة الدراما الاجتماعية، إلى المسلسلات التاريخية والدينية مثل عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد. كان التلفزيون عنده مساحة إبداعية لا تقل عن السينما.
ومع تغيّر الزمن، عرف كيف يقدم نفسه لجمهور جديد دون أن يتنازل عن مبادئه الفنية. ظل وفيًّا لحياته الخاصة ومسؤولياته، وواجه مرضه بصمت، تاركًا رسالة واضحة: الموهبة وحدها لا تكفي، النجومية تصنعها إدارة واعية، وجرأة على التجريب، ورفض للتكرار الآمن.
رحل نور الشريف، لكن ظل الولد القادم من السيدة زينب حيًّا في الذاكرة، بلمعته الأولى، وبإيمانه أن الفن ليس وسيلة للعيش… بل حياة كاملة تُعاش.