


حسن عيسى يكتب: بوسى التي لا يشبهها أحد
كتب: حسن عيسى




هي الفريدة التي لا يشبهها أحد، ولم تعش يومًا في ظل أحد: لا ظل نجومية زوجها، ولا ظل جمالها، ولا ظل ألقاب زائفة. صنعت طريقها بنفسها.
أنوثتها لم تكن إغواءً سطحيًا، بل طاقة إنسانية صادقة. منحت المرأة على الشاشة وجهًا جديدًا: جاذبية ممزوجة بالبساطة، ورقّة تحمل بداخلها قوة دفينة.
عيونها تحمل أسرارًا لا تُقال، وملامحها تجمع بين الصرامة والدفء، ابتسامة تكسر الحواجز بين الشاشة والمتلقي، وجمال أرستقراطي تذوبه شخصية بنت البلد.
مزيج نادر منح بوسي مذاقًا خاصًا؛ حالة فنية نمت على الشاشة منذ الطفولة وترسخت حتى النضج، بحضور إنساني دافئ لم يعرف الصخب ولا الزيف، بل ظل قريبًا من صورة “ابنة البيت المصري” التي تكبر مع جمهورها خطوة بخطوة.
رغم أنها ظهرت في زمنٍ امتلأت فيه الشاشة بوجوه رائعة جميلة كأنها خارجة من لوحات أوروبية، أيقنت بوسي أن الجمال وحده لا يكفي للاستمرار. فبعض الجميلات عبرن مرور الزينة، لكنها اختارت أن تبني مشروعًا فنيًا يحمل بصمتها.
ولم تستعجل خطواتها، فجسدت رحلة نضج على نار هادئة، وأنتجت أعمالًا فنية مختلفة قدّمت فيها شخصياتٍ درامية تعكس هشاشة المرأة وقوتها في آنٍ واحد.
في فيلم قطة على نار قدّمت دورًا مركبًا يغوص في النفس البشرية، كان بداية لمعرفة نفسها، لمعرفة القوة التي يمكن أن تحملها أدوارها. ثم وسّعت مساحتها بين الحرملك وجواري بلا قيود، حتى بلغت ذروة اكتمالها في قصة بهاء طاهر خالتي صفية والدير، العمل الذي كشف عن قدرتها على التقاط تناقضات الروح؛ حيث جمعت بين الرقة والصلابة، الحب والانتقام، لتقدم أنوثة متكاملة: حساسة لكنها قوية، جذابة لكنها صادقة.
وذهبت إلى المسرح في عيد الميلاد لتجسد سيدة قعيدة تجلس طوال العرض على كرسي متحرك، في تحدٍّ صعب لطبيعة الأداء الحي. أما فيلمها حبيبي دائمًا فصار أيقونة، إذ امتزج فيه الواقع بالخيال حتى اعتقد الجمهور أنه شاهد قصة حبها الحقيقية مع نور الشريف تتجسد أمامهم على الشاشة، ليمنحها سحرًا أسريًا خاصًا يندر بين نجمات جيلها.
بوسي امرأة لم تجعل الأنوثة قناعًا، بل طاقة إنسانية صادقة تسربت إلى أدوارها. أنوثة رقيقة لكنها محمّلة بقوة دفينة، جعلت شخصياتها واقعية ومثيرة في آن واحد.
وفي المقابل، لا يمكن إنكار أن بعض اختياراتها جاءت أقل من إمكاناتها. أدوار بعينها بدت امتدادًا لصورة نمطية للمرأة الرقيقة، الحلم، التي لم تُمنح مساحة حقيقية للكشف عن صراعها الداخلي. هذه الأدوار – على جمالها – لم تضف إلى رصيد بوسي شيئًا جديدًا، وربما جمدت صورتها لسنوات في عين الجمهور.
إنها حكاية امرأة لم تساوم على حضورها، ولم تبتذل نفسها. عاشت بين الأضواء والظلال كمن يعرف أن العمر مشهد طويل، وأن الأهم ليس عدد الأدوار، بل الأثر الذي يتركه الدور في قلب من يشاهده. وهكذا بقيت بوسي: ضحكة لا تشيخ، وملامح لا يطالها الغياب، وحدوتة تحكي نفسها بنفسها كلما دار شريط الفيلم من جديد.
فهي الفريدة التي لم تبحث عن لقب فني أو تجاري يسبق اسمها، ولم تُشغل نفسها بصراعات بين زميلاتها، ولا بمنافسات “الأكثر موهبة” أو “الأعلى إيرادًا”. اختارت أن تترك أثرًا صادقًا، تغيب حين تريد وتعود حين تشاء، كأنها تُعلن أن الفن فضاء حرية لا مضمار سباق.
هي الفريدة… لأنها لم تشبه أحدًا، ولم تختبئ في ظل أحد، وظلت دائمًا تشبه نفسها فقط. لتبقى بوسي مثل شريط سينما لا ينتهي؛ كلما دار من جديد، أعاد إلينا الدفء والحنين.