محمد هشام عُبيَّه يكتب: بهاء طاهر.. نسيم روح الجنوب الطاهرة
كتب: العاصمة
لا يحتاج بهاء طاهر إلى نهاية العام للكتابة عنه، هذه «روح شفافة» ينبغي أن تكون ضيفا يوميا على الصفحات والأوراق والشاشات، ليس لأن هذا حجمه وقدره الذي يستحقه فحسب، وإنما لأن الاصطباحة والتمسية بالعم بهاء طاهر «علاج عملي» لتشوه الذوق وفساد الروح وخلل الدماغ الذي نعاني منه.
لا يحتاج بهاء طاهر إلى نهاية اليوم الأخير في السنة للاحتفاء به، ولا يحتاج إلى منطق الكتابة العادية للقول بأن وجوده في قائمة نجوم 2008 لأنه المصري الأول الذي يحرز جائزة البوكر العربية في الرواية، أو لأنه العربي الأول الفائز بجائزة الزباتور الإيطالية الأدبية الرفيعة، أو لأنه حتى تنازل عن الترشيح لجائزة مبارك في الآداب لصالح اسم الراحل الكبير رجاء النقاش، كل هذه تفاصيل تليق تمامًا بـ«بهاء طاهر» وبالسحر المتسرسب من قلمه ليسكن زوايا وأركان رواياته وقصصه الاستثنائية.
الاحتفاء ببهاء طاهر إنما يكون لأنه - أولا - لا يزال بيننا بكل هذا الحب والحزن والحنان «المزغلل» في عيونه الطيبة كعيون جد يراقب أبناءه وأحفاده وهم يُعاركون الدنيا فيغلبونها وتغلبهم، ولأنه يفعل ذلك بطبيعية وإنسانية متدفقة لا توجد فيها ذرة من تصنع أو تزوير أو تقليد كما هو حال كثيرين، ولأنه لا يزال - في طلته ونظرته وقلمه - يحارب القبح ويدعو إلى الجمال وبداخله حماس الشباب وعنفوانه وثقته البالغة في انتصار الخير على الشر حتى لو كان هذا في نهاية القصص والصفحات الأخيرة من الروايات.
الاحتفاء بـ«بهاء طاهر» منطقي ومهم إذن لأنه فعل ما لا يفعله غيره ممن يصفون أنفسهم بالكتاب الكبار المنغمسين في هموم العالم، زيارة واحدة لمكتبة ديوان أو مرور سريع على ذلك المقهى الشعبي المحندق في شارع 26 يوليو بالزمالك، تشرح لك إنجاز بهاء طاهر الأكبر إلى جانب منجزه الأدبي، فالمتابعة الدقيقة لجلسة «بهاء طاهر» ستكشف لك أنه أديب - يا للمفاجأة - «بلا شلة».
لا يعني هذا بالقطع أنه بلا أصدقاء وما أكثرهم وتنوعهم، وإنما أنه لا يحيط نفسه بتلك الزمرة التي نراها في التجمعات الثقافية «إياها» وقد فاحت راحتها «الأدبية» فتجدها - وقد ضمت نقادًا وكتابًا من ذوي النفوذ والسلطة وأصحاب المساحات المؤجرة في الصحف - ترفع مَنْ لا يزال يتعلم حشد المشاعر على السطور إلى محاذاة السماء بدون وجه حق، فقط لأنه «تبعهم» و«منهم وعليهم» وسيستفيدون من صعوده المزيف هذا الكثير، وربما يفتح عليهم أبو الخير والجنيه والدولار.
لم يعرف بهاء طاهر هذا «العك»، وحتما لما عرف الطريق إليه - وما أسهله - أشاح بوجهه ساخطا ومتأذيا دون أن يظهر على وجهه هذا - بكل تأكيد - حتى لا يتسبب ذلك في تألم هؤلاء، إن كانوا يتألمون حقا؟ لكن هذه هي طبيعته النقية كماء عذب خارج لتوه من بئر في صحراء سيوة، وهذه واحدة من أهم القيم التي يصدرها بهاء طاهر، لجيل كامل من الروائيين والقصاصين الموهوبين: «اهتم بمشروعك واخلص لعملك واكتب أدبا.. وستنجح».
وسط هذا الكم من الأدباء، ستجد بهاء طاهر واحدا من أكثر الذين تجاهلهم النقاد المشاهير عن عمد، كده، وبالقصد، وبغرض الإقصاء والإبعاد، وكأن هذه مهمتهم الأساسية في الدنيا، خذ عندك روايته الأخيرة البديعة «واحة الغروب» وتابع بدقة ما كتب عنها ستجد أن الحقيقي الصادق فيها هو ما خرج من القراء الذين استقبلوها كما يليق بأغنية حزينة ناعمة ترشق في القلب ولا تبارحه، احتفوا بها رغم صدور طبعتها الأولى من دار نشر حكومية «دار الهلال» لا تمتلك إمكانيات الدعاية المكثفة، ونفدت طبعتها الأولى في وقت قياسي.
وخرجت أولى الكتابات المحتفيّة بالعمل المبهر من بين جيل الشباب - الذي لا يعرف فرقا بين مرايا النقد المحدبة والمقعرة لكنه يمتلك حاسة التذوق الأدبي على بكارتها دون تلوث - فكتبوا على المدونات وصفحات الإنترنت مبكرا، قبل أن يصبح على النقاد «الكبار طبعا» أن يكتبوا عن الرواية ذاتها بعد أن أحرزت «البوكر» وصار من «عيب الشوم» أن يظلوا يخرسهم المقصود من «واحة الغروب» فانسابت الصفحات تحلل وترصد وتُبارك وتهنئ وإن بقي الجميع قادرًا على التمييز بين «الفرز الأول» و«الفرز الثاني».
وهل هذا أمر لا يعرفه بهاء طاهر؟ يعرفه طبعا، لا تنسى أنه احتفل بعيد ميلاده الثالث والسبعين منذ شهور (المقال منشور نهاية 2008) ولا تنس أنه قضى بين استديوهات الإذاعة المصرية سنوات وسنوات يقدم بدأب برنامجه الأدبي صاحب الطعم الخصوصي، ولا تنسى أنه «لف العالم» سنين وسنين، ولا تنسى أنه عمل في الأمم المتحدة - أكبر رأس في منظمات العالم وأكثرها صخبًا واحتواءً لكل جنسيات الدنيا - ما يقرب من 20 عاما. ولا تنسى قبل هذا وذاك أنه «صعيدي» مولود في الجيزة - أول صعيدك يا مصر - وتعود جذور والديه إلى كرنك الأقصر - آخر صعيدك يا مصر ويا أسوان، أي أنه يعرف ويفهم هذا جدا، لكن ذلك لم يجعله يبدد طاقته في «خناقات» جانبية، وصراعات لا تودي ولا تجيب، اختار الكتابة مشروعا، واختار الإنسانية ونسًا، فكسب الاثنين معا وفوقهما حب واحترام وانبهار قراء من الصعب حصرهم في أرقام وأعداد.
ولعل هذا المنهج الـ«بهاء طاهر» جدا هو الذي يكشف جانبا آخر لا يشذ مطلقا عن تلك الصفات التي يحتويها بهاء طاهر في عوده النحيل وكرمشة وجهه الرحبة، وهو أنه يبحث عن الموهوبين بدأب واهتمام وكأنه يفتش عن كنز أثري - يسعد بهم ويضمهم - بثقة الكبير ومحبة الأجداد، إلى عالم الكتابة السحري، يقرأ للشباب ويتعاطى كلماتهم، وكأنه منهم، هاضمًا المسافات والسنين والقامات بنفس راضية وسعيدة ومحبة، يشير إليهم بالاسم والصفة والكتاب والعنوان، يجمعهم حوله كلما استطاع في جلسة هنا أو هناك يدعمهم ويساندهم، ويعطي لهم عصير الخبرة وكوكتيل النصائح المشكّلة غربي على عربي، أوروبي على شرقي، ويحيطهم بغلالة رقيقة تحميهم من الطوب والدبش الذي يدخل على الواحد منهم يفتت عزيمته وقوته ويسحب جزءًا من ثقته بنفسه وبقلمه.
يفعل بهاء طاهر هذا راضيا مطمئنا سعيدا، وكأن هذه رسالته في الدنيا، يقلب في المدونات ليقرأ وليفهم كيف يفكر شباب اليومين دول؟، تقع في يده مجموعة قصصية طازجة أو رواية مبهرة خرجت لتوها من دماغ وروح شاب ابن كام وعشرين سنة، فيظل يبحث بدأب وإصرار عن رقم تليفونه حتى يتصل به في ليلة شتوية دافئة ليعطيه البشارة «روايتك حلوة»، يتحمل «دقدقة» و«إلحاح» الباحثين المقلبين في أعماله ليأخذوا فيها الماجستير والدكتوراه فيعدهم بكل ما يمكن أن يساعدهم حتى ولو كان هذا المدد يقف عند حدود فنجان قهوة أو «شد حيلك في مشوارك».
يحتفي بالقادمين من خلف البحر المتوسط ومن بلاد عيونها ملونة ويقابلهم في عز القاهرة بفخر أنهم في بلاده التي يحكي لهم عنها، ويفتح لهم فيها أبوابها المغلقة السحرية العصية على الغرباء، يفعل كل هذا بتلقائية وطبيعية جدا، يمارس هذا يوميا بصفاء نفس لا يعكره الزحام والضوضاء والدوشة وقبح الأنفس والشوارع إلا قليلا.
يفعل كل هذا وهو محتفظ بابتسامته الهادئة المرحبة أبدا المطمئنة دوما التي تفرش لك الأرض وردا، يفعل ذلك وهو لا يزال قادرا على التطلع إلى الغد مقتنعا بأن «الحاضر هو القبيح لكن المستقبل أحلى طبعا»، يفعل هذا وهو مقتنع بأن العبرة ليست بأن يكتب كل يوم رواية وإنما بأن يقرأك الناس كل يوم حتى لو كان الفارق بين العمل الأول والآخر سنين عددا، يفعل ذلك وهو مؤمن بأن «حتى الحزن حاجة إيجابية»، إذا ترتب عليه عمل إيجابي ودفع إلى التغيير نحو الأفضل ضاربا المثل بمقولة تشيكوف: «لا أكتب عن الأشياء المحزنة لتحزنوا، ولكن لتغيروها»، يفعل ذلك بكل هذا النقاء والطهر والمحبة، هل عرفتم إذن لماذا بهاء طاهر معنا هنا؟
_______________________
نُشر هذا المقال لأول مرة بـ«الدستور» بتاريخ 31 ديسمبر 2008